سورة الشعراء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشعراء)


        


{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)}
اعلم أنه تعالى لما حكى عنه أنه استثنى رب العالمين، حكى عنه أيضاً ما وصفه به مما يستحق العبادة لأجله، ثم حكى عنه ما سأله عنه، أما الأوصاف فأربعة: أولها: قوله: {الذى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ}.
واعلم أنه سبحانه أثنى على نفسه بهذين الأمرين في قوله: {الذى خَلَقَ فسوى * والذى قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 2، 3] واعلم أن الخلق والهداية بهما يحصل جميع المنافع لكل من يصح الانتفاع عليه، فلنتكلم في الإنسان فنقول إنه مخلوق، فمنهم من قال هو من عالم الخلق والجسمانيات، ومن قال هو من عالم الأمر الروحانيات، وتركيب البدن الذي هو من عالم الخلق مقدم على إعطاء القلب الذي هو من عالم الأمر على ما أخبر عنه سبحانه في قوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} [ص: 72] فالتسوية إشارة إلى تعديل المزاج وتركيب الأمشاج، ونفخ الروح إشارة إلى اللطيفة الربانية النورانية التي هي من عالم الأمر، وأيضاً قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] ولما تمم مراتب تغيرات الأجسام قال: {ثم أنشأناه خلقاً آخر} [المؤمنون: 14] وذلك إشارة إلى الروح الذي هو من عالم الملائكة، ولا شك أن الهداية إنما تحصل من الروح، فقد ظهر بهذه الآيات أن الخلق مقدم على الهداية.
أما تحقيقه بحسب المباحث الحقيقية، فهو أن بدن الإنسان إنما يتولد عند امتزاج المني بدم الطمث، وهما إنما يتولدان من الأغذية المتولدة من تركب العناصر الأربعة وتفاعلها، فإذا امتزج المني بالدم فلا يزال ما فيها من الحار والبارد والرطب واليابس متفاعلاً، وما في كل واحد منها من القوى كاسراً سورة كيفية الآخر، فحينئذ يحصل من تفاعلهما كيفية متوسطة تستحر بالقياس إلى البارد وتستبرد بالقياس إلى الحار، وكذا القول في الرطب واليابس، وحينئذ يحصل الاستعداد لقبول قوى مدبرة لذلك المركب فبعضها قوى نباتية وهي التي تجذب الغذاء، ثم تمسكه ثم تهضمه ثم تدفع الفضلة المؤذية، ثم تقيم تلك الأجزاء بدل ما تحلل منها، ثم تزيد في جوهر الأعضاء طولاً وعرضاً، ثم يفضل عن تلك المواد فضلة يمكن أن يتولد عنها مثل ذلك، ومنها قوى حيوانية بعضها مدركة كالحواس الخمس والخيال والحفظ والذكر، وبعضها فاعلة: إما آمرة كالشهوة والغضب أو مأمورة كالقوى المركوزة في العضلات، ومنها قوى إنسانية وهي إما مدركة أو عاملة، والقوى المدركة هي القوى القوية على إدراك حقائق الأشياء الروحانية والجسمانية والعلوية والسفلية، ثم إنك إذا فتشت عن كل واحدة من مركبات هذا العالم الجسماني، ومفرداتها وجدت لها أشياء تلائمها وتكمل حالها وأشياء تنافرها وتفسد حالها، ووجدت فيها قوى جذابة للملائم دفاعة للمنافي، فقد ظهر أن صلاح الحال في هذه الأشياء لا يتم إلا بالخلق والهداية.
أما الخلق فبتصييره موجوداً بعد أن كان معدوماً، وأما الهداية فبتلك القوى الجذابة للمنافع والدفاعة للمضار فثبت أن قوله: {خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} كلمة جامعة حاوية لجميع المنافع في الدنيا والدين، ثم هاهنا دقيقة وهو أنه قال: {خَلَقَنِى} فذكره بلفظ الماضي وقال: {يَهْدِينِ} ذكره بلفظ المستقبل، والسبب في ذلك أن خلق الذات لا يتجدد في الدنيا، بل لما وقع بقي إلى الأمد المعلوم.
أما هدايته تعالى فهي مما يتكرر كل حين وأوان سواء كان ذلك هداية في المنافع الدنيوية، وذلك بأن تحكم الحواس بتمييز المنافع عن المضار أو في المنافع الدينية وذلك بأن يحكم العقل بتمييز الحق عن الباطل والخير عن الشر، فبين بذلك أنه سبحانه هو الذي خلقه بسائر ما تكامل به خلقه في الماضي دفعة واحدة، وأنه يهديه إلى مصالح الدين والدنيا بضروب الهدايات في كل لحظة ولمحة.
وثانيها: قوله: {والذى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ} وقد دخل فيه كل ما يتصل بمنافع الرزق، وذلك لأنه سبحانه إذا خلق له الطعام وملكه، فلو لم يكن معه ما يتمكن به من أكله والاغتذاء به نحو الشهوة والقوة والتمييز لم تكمل هذه النعمة، وذكر الطعام والشراب ونبه بذكرهما على ما عداهما.
وثالثها: قوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} وفيه سؤال وهو أنه لم قال: {مرضات} دون أمرضني؟ وجوابه من وجوه:
الأول: أن كثيراً من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك، ومن ثم قالت الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم؟ لقالوا التخم الثاني: أن المرض إنما يحدث باستيلاء بعض الأخلاط على بعض، وذلك الاستيلاء إنما يحصل بسبب ما بينها من التنافر الطبيعي.
أما الصحة فهي إنما تحصل عند بقاء الأخلاط على اعتدالها وبقاؤها على اعتدالها، إنما يكون بسبب قاهر يقهرها على الاجتماع، وعودها إلى الصحة إنما يكون أيضاً بسبب قاهر يقهرها على العود إلى الاجتماع والاعتدال بعد أن كانت بطباعها مشتاقة إلى التفرق والنزاع، فلهذا السبب أضاف الشفاء إليه سبحانه وتعالى، وما أضاف المرض إليه.
وثالثها: وهو أن الشفاء محبوب وهو من أصول النعم، والمرض مكروه وليس من النعم، وكان مقصود إبراهيم عليه السلام تعديد النعم، ولما لم يكن المرض من النعم لا جرم لم يضفه إليه تعالى، فإن نقضته بالإماتة فجوابه: أن الموت ليس بضرر، لأن شرط كونه ضرراً وقوع الإحساس به، وحال حصول الموت لا يقع الإحساس به، إنما الضرر في مقدماته وذلك هو عين المرض، وأيضاً فلأنك قد عرفت أن الأرواح إذا كملت في العلوم والأخلاق كان بقاؤها في هذه الأجساد عين الضرر وخلاصتها عنها عين السعادة بخلاف المرض.
ورابعها: قوله: {والذى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ} والمراد منه الإماتة في الدنيا والتخلص عن آفاتها وعقوباتها، والمراد من الإحياء المجازاة.
وخامسها: قوله: {والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين} فهو إشارة إلى ما هو مطلوب كل عاقل من الخلاص عن العذاب والفوز بالثواب.
واعلم أن إبراهيم عليه السلام جمع في هذه الألفاظ جميع نعم الله تعالى من أول الخلق إلى آخر الأبد في الدار الآخرة، ثم هاهنا أسئلة:
السؤال الأول: لم قال: {والذى أَطْمَعُ} والطمع عبارة عن الظن والرجاء، وإنه عليه السلام كان قاطعاً بذلك؟ جوابه: أن هذا الكلام لا يستقيم إلا على مذهبنا، حيث قلنا إنه لا يجب على الله لأحد شيء، وأنه يحسن منه كل شيء ولا اعتراض لأحد عليه في فعله، وأجاب الجبائي عنه من وجهين:
الأول: أن قوله: {والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى} أراد به سائر المؤمنين لأنهم الذين يطمعون ولا يقطعون به الثاني: المراد من الطمع اليقين، وهو مروي عن الحسن وأجاب صاحب الكشاف: بأنه إنما ذكره على هذا الوجه تعليماً منه لأمته كيفية الدعاء.
واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة، أما الأول: فلأن الله تعالى حكى عنه الثناء أولاً والدعاء ثانياً ومن أول المدح إلى آخر الدعاء كلام إبراهيم عليه السلام فجعل الشيء الواحد وهو قوله: {والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين} كلام غيره مما يبطل نظم الكلام ويفسده، وأما الثاني: وهو أن الطمع هو اليقين فهذا على خلاف اللغة، وأما الثالث: وهو أن الغرض منه تعليم الأمة فباطل أيضاً لأن حاصله يرجع إلى أنه كذب على نفسه لغرض تعليم الأمة، وهو باطل قطعاً.
السؤال الثاني: لم أسند إلى نفسه الخطيئة مع أن الأنبياء منزعون عن الخطايا قطعاً؟، وفي جوابه ثلاثة وجوه:
أحدها: أنه محمول على كذب إبراهيم عليه السلام في قوله: {فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 63] وقوله: {إِنّى سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وقوله لسارة: (إنها أختي) وهو ضعيف لأن نسبة الكذب إليه غير جائزة.
وثانيها: أنه ذكره على سبيل التواضع وهضم النفس وهذا ضعيف لأنه إن كان صادقاً في هذا التواضع فقد لزم الإشكال، وإن كان كاذباً فحينئذ يرجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به لأجل تنزيهه عن المعصية.
وثالثها: وهو الجواب الصحيح أن يحمل ذلك على ترك الأولى، وقد يسمى ذلك خطأ فإن من ملك جوهرة وأمكنه أن يبيعها بألف ألف دينار فإن باعها بدينار، قيل إنه أخطأ، وترك الأولى على الأنبياء جائز.
السؤال الثالث: لم علق مغفرة الخطيئة بيوم الدين، وإنما تغفر في الدنيا؟ جوابه: لأن أثرها يظهر يوم الدين وهو الآن خفي لا يعلم.
السؤال الرابع: ما فائدة (لي) في قوله: {يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى}؟ وجوابه من وجوه:
أحدها: أن الأب إذا عفا عن ولده والسيد عن عبده والزوج عن زوجته فذلك في أكثر الأمر إنما يكون طلباً للثواب وهرباً عن العقاب أو طلباً لحسن الثناء والمحمدة أو دفعاً للألم الحاصل من الرقة الجنسية وإذا كان كذلك لم يكن المقصود من ذلك العفو رعاية جانب المعفو عنه بل رعاية جانب نفسه، إما لتحصيل ما ينبغي أو لدفع ما لا ينبغي، أما الإله سبحانه فإنه كامل لذاته فيستحيل أن تحدث له صفات كمال لم تكن أو يزول عنه نقصان كان، وإذا كان كذلك لم يكن عفوه إلا رعاية لجانب المعفو عنه فقوله: {والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى} يعني هو الذي إذا غفر كان غفرانه لي ولأجلي لا لأجل أمر عائد إليه ألبتة.
وثانيها: كأنه قال خلقتني لا لي فإنك حين خلقتني ما كنت موجوداً وإذا لم أكن موجوداً استحال تحصيل شيء لأجلي ثم مع هذا فأنت خلقتني، أما لو عفوت كان ذلك العفو لأجلي، فلما خلقتني أولاً مع أني كنت محتاجاً إلى ذلك الخلق فلأن تغفر لي وتعفو عني حال ما أكون في أشد الحاجة إلى العفو والمغفرة كان أولى.
وثالثها: أن إبراهيم عليه السلام كان لشدة استغراقه في بحر المعرفة شديد الفرار عن الالتفات إلى الوسائط، ولذلك لما قال له جبريل عليه السلام: ألك حاجة؟ قال أما إليك فلا فهاهنا قال: {أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين} أي لمجرد عبوديتي لك واحتياجي إليك تغفر لي خطيئتي لا أن تغفرها لي بواسطة شفاعة شافع.


{رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)}
اعلم أن الله تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام ثناءه على الله تعالى ذكر بعد ذلك دعاءه ومسألته وذلك تنبيه على أن تقديم الثناء على الدعاء من المهمات وتحقيق الكلام فيه أن هذه الأرواح البشرية من جنس الملائكة فكلما كان اشتغالها بمعرفة الله تعالى ومحبته والانجذاب إلى عالم الروحانيات أشد كانت مشاكلتها للملائكة أتم، فكانت أقوى على التصرف في أجسام هذا العالم، وكلما كان اشتغالها بلذات هذا العالم واستغراقها في ظلمات هذه الجسمانيات أشد كانت مشاكلتها للبهائم أشد فكانت أكثر عجزاً وضعفاً وأقل تأثيراً في هذا العالم، فمن أراد أن يشتغل بالدعاء يجب أن يقدم عليه ثناء الله تعالى وذكر عظمته وكبريائه حتى أنه بسبب ذلك الذكر يصير مستغرقاً في معرفة الله ومحبته ويصير قريب المشاكلة من الملائكة فتحصل له بسبب تلك المشاكلة قوة إلهية سماوية فيصير مبدأ لحدوث ذلك الشيء الذي هو المطلوب بالدعاء فهذا هو الكشف عن ماهية الدعاء وظهر أن تقديم الثناء على الدعاء من الواجبات وطهر به تحقيق قوله عليه السلام حكاية عن الله تعالى: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين فإن قال قائل: لم لم يقتصر إبراهيم عليه السلام على الثناء، لا سيما ويروى عنه أيضاً أنه قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي؟ فالجواب: أنه عليه السلام إنما ذكر ذلك حين كان مشتغلاً بدعوة الخلق إلى الحق ألا ترى أنه قال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ العالمين} [الشعراء: 77] ثم ذكر الثناء، ثم ذكر الدعاء لأن الشارع لابد له من تعليم الشرع، فأما حين ما خلا بنفسه، ولم يكن غرضه تعليم الشرع كان يقتصر على قوله: حسبي من سؤالي علمه بحالي.
البحث الثاني: في الأمور التي طلبها في الدعاء وهي مطاليب:
المطلوب الأول: قوله: {رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بالصالحين}، ولقد أجابه الله تعالى حيث قال: {وَإِنَّهُ فِي الأخرة لَمِنَ الصالحين} [البقرة: 130] وفيه مطالب: أحدها: أنه لا يجوز تفسير الحكم بالنبوة لأن النبوة كانت حاصلة فلو طلب النبوة لكانت النبوة المطلوبة، أما عين النبوة الحاصلة أو غيرها، والأول محال لأن تحصيل الحاصل محال، والثاني محال لأنه يمتنع أن يكون الشخص الواحد نبياً مرتين، بل المراد من الحكم ما هو كمال القوة النظرية، وذلك بإدراك الحق ومن قوله: {وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} كمال القوة العملية، وذلك بأن يكون عاملاً بالخير فإن كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، وإنما قدم قوله: {رَبّ هَبْ لِى حُكْماً} على قوله: {وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} لما أن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية بالشرف وبالذات، وأيضاً فإنه يمكنه أن يعلم الحق وإن لم يعلم بالخير وعكسه غير ممكن، ولأن العلم صفة الروح والعمل صفة البدن، ولما كان الروح أشرف من البدن كان العلم أفضل من العمل، وإنما فسرنا معرفة الأشياء بالحكم وذلك لأن الإنسان لا يعرف حقائق الأشياء إلا إذا استحضر في ذهنه صور الماهيات، ثم نسب بعضها إلى بعض بالنفي أو بالإثبات، وتلك النسبة وهي الحكم، ثم إن كانت النسب الذهنية مطابقة للنسب الخارجية كانت النسب الذهنية ممتنعة التغير فكانت مستحكمة قوية، فمثل هذا الإدراك يسمى حكمة حكماً، وهو المراد من قوله عليه السلام:
أرنا الأشياء كما هي وأما الصلاح فهو كون القوة العاقلة متوسطة بين رذيلتي الإفراط والتفريط، وذلك لأن الإفراط في أحد الجانبين تفريط في الجانب الآخر وبالعكس فالصلاح لا يحصل إلا بالاعتدال، ولما كان الاعتدال الحقيقي شيئاً واحداً لا يقبل القسمة ألبتة والأفكار البشرية في هذا العالم قاصرة على إدراك أمثال هذه الأشياء، لا جرم لا ينفك البشر عن الخروج عن ذلك الحد وإن قل، إلا أن خروج المقربين عنه يكون في القلة بحيث لا يحس به وخروج العصاة عنه يكون متفاحشاً جداً فقد ظهر من هذا تحقيق ما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وظهر احتياج إبراهيم عليه السلام إلى أن يقول: {وَأَلْحِقْنِى بالصالحين}.
المطلب الثاني: لما ثبت أن المراد من الحكم العلم، ثبت أنه عليه السلام طلب من الله أن يعطيه العلم بالله تعالى وبصفاته، وهذا يدل على أن معرفة الله تعالى لا تحصل في قلب العبد إلا بخلق الله تعالى، وقوله: {وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} يدل على أن كون العبد صالحاً ليس إلا بخلق الله تعالى وحمل هذه الأشياء على الألطاف بعيد، لأن عند الخصم كل ما في قدرة الله تعالى من الألطاف فقد فعله فلو صرفنا الدعاء إليه لكان ذلك طلباً لتحصيل الحاصل وهو فاسد.
المطلب الثالث: أن الحكم المطلوب في الدعاء إما أن يكون هو العلم بالله أو بغيره والثاني باطل، لأن الإنسان حال كونه مستحضراً للعلم بشيء لا يمكنه أن يكون مستحضراً للعلم بشيء آخر فلو كان المطلوب بهذا الدعاء العلم بغير الله تعالى، والعلم بغير الله تعالى شاغل عن الاستغراق في العلم بالله كان هذا السؤال طلباً لما يشغله عن الاستغراق في العلم بالله تعالى، وذلك غير جائز لأنه لا كمال فوق ذلك الاستغراق فإذن المطلوب بهذا الدعاء هو العلم بالله، ثم إن ذلك العلم إما أن يكون هو العلم بالله تعالى الذي هو شرط صحة الإيمان أو غيره، والأول باطل لأنه لما وجب أن يكون حاصلاً لكل المؤمنين فكيف لا يكون حاصلاً عند إبراهيم عليه السلام، وإذا كان حاصلاً عنده امتنع طلب تحصيله، فثبت أن المطلوب بهذا الدعاء درجات في معرفة الله تعالى أزيد من العلم بوجوده وبأنه ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز وبأنه عالم قادر حي، وما ذاك إلا الوقوف على صفات الجلال أو الوقوف على حقيقة الذات أو ظهور نور تلك المعرفة في القلب. ثم هناك أحوال لا يعبر عنها المقال ولا يشرحها الخيال، ومن أراد أن يصل إليها فليكن من الواصلين إلى العين، دون السامعين للأثر.
المطلوب الثاني: قوله: {واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِي الأخرين} وفيه ثلاث تأويلات:
التأويل الأول: أنه عليه السلام ابتدأ بطلب ما هو الكمال الذاتي للإنسان في الدنيا والآخرة وهو طلب الحكم الذي هو العلم، ثم طلب بعده كمالات الدنيا وبعد ذلك طلب كمالات الآخرة، فأما كمالات الدنيا فبعضها داخلية وبعضها خارجية، أما الداخلية فهي الخلق الظاهر والخلق الباطن والخلق الظاهر أشد جسمانية والخلق الباطن أشد روحانية، فترك إبراهيم عليه السلام الأمر الجسماني وهو الخلق الظاهر وطلب الأمر الروحاني وهو الخلق الباطن، وهو المراد بقوله: {وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} وأما الخارجية فهي المال والجاه، والمال أشد جسمانية والجاه أشد روحانية فترك إبراهيم عليه السلام الأمر الجسماني وهو المال وطلب الأمر الروحاني وهو الجاه والذكر الجميل الباقي على وجه الدهر، وهو المراد بقوله: {واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِي الأخرين} قال ابن عباس رضي الله عنهما وقد أعطاه ذلك بقوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الأخرين} فإن قيل وأي غرض له في أن يثني عليه ويمدح؟ جوابه من وجهين:
الأول: وهو على لسان الحكمة أن الأرواح البشرية قد بينا أنها مؤثرة في الجملة إلا أن بعضها قد يكون ضعيفاً فيعجز عن التأثير فإذا اجتمعت طائفة منها فربما قوي مجموعها على ما عجزت الآحاد عنه، وهذا المعنى مشاهد في المؤثرات الجسمانية، إذا ثبت هذا فالإنسان الواحد إذا كان بحيث يثني عليه الجمع العظيم ويمدحونه ويعظمونه، فربما صار انصراف هممهم عند الاجتماع إليه سبباً لحصول زيادة كمال له الثاني: وهو على لسان الكمال أن من صار ممدوحاً فيما بين الناس بسبب ما عنده من الفضائل، فإنه يصير ذلك المدح وتلك الشهرة داعياً لغيره إلى اكتساب مثل تلك الفضائل.
التأويل الثاني: أنه سأل ربه أن يجعل من ذريته في آخر الزمان من يكون داعياً إلى الله تعالى، وذلك هو محمد صلى الله عليه وسلم فالمراد من قوله: {واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِي الأخرين} بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
التأويل الثالث: قال بعضهم المراد اتفاق أهل الأديان على حبه، ثم إن الله تعالى أعطاه ذلك لأنك لا ترى أهل دين إلا ويتوالون إبراهيم عليه السلام، وقدح بعضهم فيه بأنه لا تقوى الرغبة في مدح الكافر وجوابه: أنه ليس المقصود مدح الكافر من حيث هو كافر، بل المقصود أن يكون ممدوح كل إنسان ومحبوب كل قلب.
المطلوب الثالث: قوله: {واجعلنى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم} اعلم أنه لما طلب سعادة الدنيا طلب بعدها سعادة الآخرة وهي جنة النعيم، وشبهها بما يورث لأنه الذي يغتنم في الدنيا، فشبه غنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا.
المطلوب الرابع: قوله: {واغفر لأَبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين} واعلم أنه لما فرغ من طلب السعادات الدنيوية والأخروية لنفسه طلبها لأشد الناس التصاقاً به وهو أبوه فقال: {واغفر لأَبِى} ثم فيه وجوه:
الأول: أن المغفرة مشروطة بالإسلام وطلب المشروط متضمن لطلب الشرط فقوله: {واغفر لأَبِى} يرجع حاصله إلى أنه دعاء لأبيه بالإسلام الثاني: أن أباه وعده الإسلام كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] فدعا له لهذا الشرط ولا يمتنع الدعاء للكافر على هذا الشرط {فَلَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] وهذا ضعيف لأن الدعاء بهذا الشرط جائز للكافر فلو كان دعاؤه مشروطاً لما منعه الله عنه الثالث: أن أباه قال له إنه على دينه باطناً وعلى دين نمروذ ظاهراً تقية وخوفاً، فدعا له لاعتقاده أن الأمر كذلك فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه، لذلك قال في دعائه: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين} فلولا اعتقاده فيه أنه في الحال ليس بضال لما قال ذلك.
المطلوب الخامس: قوله: {وَلاَ تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ} قال صاحب الكشاف: الإخزاء من الخزي وهو الهوان، أو من الخزاية وهي الحياء وهاهنا أبحاث:
أحدها: أن قوله: {وَلاَ تُخْزِنِى} يدل على أنه لا يجب على الله تعالى شيء على ما بيناه في قوله: {والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين} [الشعراء: 82].
وثانيها: أن لقائل أن يقول لما قال أولاً: {واجعلنى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم} ومتى حصلت الجنة، امتنع حصول الخزي، فكيف قال بعده: {وَلاَ تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ} وأيضاً فقد قال تعالى: {إِنَّ الخزى اليوم والسوء عَلَى الكافرين} [النحل: 27] فما كان نصيب الكفار فقط فكيف يخافه المعصوم؟ جوابه: كما أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فكذا درجات الأبرار دركات المقربين وخزي كل واحد بما يليق به.
وثالثها: قال صاحب الكشاف: في (يبعثون) ضمير العباد لأنه معلوم أو ضمير الضالين.
أما قوله: {إِلاَّ مَنْ أَتى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} فاعلم أنه تعالى أكرمه بهذا الوصف حيث قال: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبراهيم * إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 83، 84].
ثم في هذا الاستثناء وجوه:
أحدها: أنه إذا قيل لك: هل لزيد مال وبنون؟ فتقول ماله وبنوه سلامة قلبه، تريد نفي المال والبنين عنه وإثبات سلامة القلب له بدلاً عن ذلك، فكذا في هذه الآية.
وثانيها: أن نحمل الكلام على المعنى ونجعل المال والبنين في معنى الغنى كأنه قيل يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه.
وثالثها: أن نجعل (من) مفعولاً لينفع أي لا ينفع مال ولا بنون إلا رجلاً سلم قلبه مع ماله حيث أنفقه في طاعة الله تعالى، ومع بنيه حيث أرشدهم إلى الدين، ويجوز على هذا {إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} من فتنة المال والبنين، أما السليم ففي ثلاثة أوجه: الأول: وهو الأصح أن المراد منه سلامة القلب عن الجهل والأخلاق الرذيلة، وذلك لأنه كما أن صحة البدن وسلامته عبارة عن حصول ما ينبغي من المزاج والتركيب والاتصال ومرضه عبارة عن زوال أحد تلك الأمور فكذلك سلامة القلب عبارة عن حصول ما ينبغي له وهو العلم والخلق الفاضل ومرضه عبارة عن زوال أحدهما فقوله: {إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أن يكون خالياً عن العقائد الفاسدة والميل إلى شهوات الدنيا ولذاتها فإن قيل فظاهر هذه الآية يقتضي أن من سلم قلبه كان ناجياً وأنه لا حاجة فيه إلى سلامة اللسان واليد جوابه: أن القلب مؤثر واللسان والجوارح تبع فلو كان القلب سليماً لكانا سليمين لا محالة، وحيث لم يسلما ثبت عدم سلامة القلب التأويل الثاني: أن السليم هو اللديغ من خشية الله تعالى التأويل الثالث: أن السليم هو الذي سلم وأسلم وسالم واستسلم، والله أعلم.


{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)}
اعلم أن إبراهيم عليه السلام ذكر في وصف هذا اليوم أموراً: أحدها: قوله: {وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ} والمعنى أن الجنة قد تكون قريبة من موقف السعداء ينظرون إليها ويفرحون بأنهم المحشورون إليها والنار تكون بارزة مكشوفة للأشقياء بمرأى منهم يتحسرون على أنهم المسوقون إليها قال الله تعالى في صفة أهل الثواب {وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق: 31] وقال في صفة أهل العقاب: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ} [الملك: 27] وإنما يفعل الله تعالى ذلك ليكون سروراً معجلاً للمؤمنين وغماً عظيماً للكافرين ثانيها: قوله: {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} إلى قوله: {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} والمعنى أين آلهتكم هل ينفعونكم بنصرتهم لكم أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لأنهم وآلهتهم وقود النار وهو قوله: {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ والغاوون} أي الآلهة وعبدتهم الذين برزت لهم الجحيم، والكبكبة تكرير الكب جعل التكرير في اللفظ دليلاً على التكرير في المعنى كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ} متبعوه من عصاة الإنس والجن.
وثالثها: قوله: {قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تالله إِن كُنَّا لَفِى ضلال مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ العالمين}.
واعلم أن ظاهر ذلك أن من عبد خاصم المعبود وخاطبه بهذا الكلام، فليس يخلو حال الأصنام من وجهين إما أن يخلقها الله تعالى في الآخرة جماداً يعذب بها أهل النار فحينئذ لا يصح أن تخاطب ويجب حمل قولهم: {إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ العالمين} على أنه ليس بخطاب لهم أو يقال إنه تعالى يحييها في النار، وذلك أيضاً غير جائز لأنه لا ذنب لها بأن عبدها غيرها. فالأقرب أنهم ذكروا ذلك لما رأوا صورها على وجه الاعتراف بالخطأ العظيم وعلى وجه الندامة لا على سبيل المخاطبة، والذي يحمل على أنه خطاب في الحقيقة قولهم: {وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ المجرمون} وأرادوا بذلك من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس وهو كقولهم: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا} [الأحزاب: 67] فأما قولهم: {فَمَا لَنَا مِن شافعين} كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين {وَلاَ صَدِيقٍ} كما نرى لهم أصدقاء لأنه لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون، وأما أهل النار فبينهم التعادي والتباغض قال تعالى: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67] أو {فَمَا لَنَا مِن شافعين * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100، 101] من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى، وكان لهم أصدقاء من شياطين الإنس، أو أرادوا أنهم إن وقعوا في مهلكة علموا أن الشفعاء والأصدقاء لا ينفعونهم ولا يدفعون عنهم، فقصدوا بنفيهم نفي ما تعلق بهم من النفع، لأن مالا ينفع فحكمه حكم المعدوم، والحميم من الاحتمام وهو الاهتمام وهو الذي يهمه ما يهمك، أو من الحامة بمعنى الخاصة وهو الصديق الخالص، وإنما جمع الشفعاء ووحد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق، فإن الرجل الممتحن بإرهاق الظالم قد ينهض جماعة وافرة من أهل بلده لشفاعته رحمة له، وأما الصديق وهو الصادق في ودادك، فأعز من بيض الأنوق، ويجوز أن يريد بالصديق الجمع ثم حكى تعالى عنهم قولهم: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} وأنهم تمنوا الرجعة إلى الدنيا، ولو في مثل هذا الوضع في معنى التمني كأنه قيل فليت لنا كرة، وذلك لما بين معنى لو وليت من التلاقي في التقدير، ويجوز أن تكون على أصلها ويحذف الجواب وهو لفعلنا كيت وكيت.
قال الجبائي: إن قولهم: {فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} ليس بخبر عن إيمانهم لكنه خبر عن عزمهم لأنه لو كان خبراً عن إيمانهم لوجب أن يكون صدقاً، لأن الكذب لا يقع من أهل الآخرة، وقد أخبر الله تعالى بخلاف ذلك في قوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28] وقد تقدم في سورة الأنعام بيان فساد هذا الكلام. ثم بين سبحانه أن فيما ذكره من قصة إبراهيم عليه السلام لآية لمن يريد أن يستدل بذلك ثم قال: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} والأكثرون من المفسرين حملوه على قوم إبراهيم ثم بين تعالى أن مع كل هذه الدلائل فأكثر قومه لم يؤمنوا به فيكون هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، فيما يجده من تكذيب قومه.
فأما قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} فمعناه أنه قادر على تعجيل الانتقام لكنه رحيم بالإمهال لكي يؤمنوا.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9